أتذكر جيداً تلك اللحظة. كنت وقتها منغمساً في شيء ما لست مقتنعاً بجدواه أو حتى بأهميته، لكني أقوم به فقط لأن ذاك الشخص الذي يقف بالخارج قد طلبه مني. لذا قررت التوقف قليلاً والخروج من مكاني لممارسة هواية التنفس، ومن حسن حظي أنها هواية تسهل ممارستها خارج حرم المكتب المظلم. عندها لم أكن أعرف الوقت حتى، أو طبيعة الطقس بالخارج، لذا لم تكن هواية عابرة فقط، بل كانت مغامرة أيضاً.
ملتفتاً إلى يميني، حيث كان ذاك الشخص واقفاً يتحدث مع عميل ما أو صديق له، محدقاً إلى وجهه ومفكراً بصوت منخفض، مخبراً نفسي جملة ستصبح فيما بعد من أشهر الجمل التي أرددها كلما سئمت من شيء ما…
إلى متى!!
في ذاك الوقت، كانت تلك الجملة وسيلتي للانتقال الى العمل الحر، لكنها في الوقت ذاته أصبحت عادة سيئة مرافقة للعديد من الأشياء الأخرى. لا أدري أين أستخدمها بالتحديد… فقد أقولها في حالات اليأس والملل، في حديث ممل، في عمل أجبرت على القيام به، أو حتى في محاضرة فاشلة.
وأعتقد أن السبب وراء هذه الجملة يكمن في العمل الحر نفسه.
فيه لعنة غريبة تجعلك تمل بسرعة من أي شيء تفعله أو يحيط بك. تجعلك تكره الروتين اليومي، وتخافه كما تخاف بطء الإنترنت. تمل من مكان عملك، من زبائنك، من نظام حياتك المتقلب، من الأشخاص حولك، وحتى من نوعية عملك أو اختصاصك.
بالنسبة لأسباب الملل
حاولت التفكير، وتوصلت إلى أن السبب الرئيسي هو الحرية المطلقة في المقام الأول.
ففكرة العمل الحر قائمة على إمكانية العمل في أي زمان، وفي أي مكان، بأي طريقة وتحت أي ظرف، وأحياناً وأنت نائم. هذه الطريقة في العمل بحد ذاتها روتينية إلى حد ما ومملة. فهي دائرة لا تنتهي أبداً، تبدأ بالرد على رسائل بريدك الصباحية وتنتهي بتهدئة نفسك مساءً بسبب تراكم الأعمال عليك وتشابكها مع بعضها البعض.
أما بالنسبة للحلول
فلم أجد حلاً حقيقياً يقنعني شخصياً، حتى أستطيع عرضه عليكم.
لكن فكرت بتجربة العمل داخل الشركات السوداوية أو الدوائر الحكومية، والالتزام مع أحدها بعقد طويل، 5 سنوات مثلاً.
فلم أجد نفسي إلا وقد عدت إلى رشدي، وعاد عقل “المستقلين” إلي، وتذكرت تلك النعمة الرائعة التي أعيش فيها. ثم بدأت بدندنة وترديد جملتي الشهيرة بصوت منخفض واثق:
“أفضل العيش مكوياً بلهيب سلبيات العمل الحر… على أن أقضي يوماً واحداً بدونه.”