لكل قرار تتخذه ثمن، وفي رحلة كل شخص منا مجموعة قرارات أوصلته لمكان ما، هدف، أو حتى فكرة، كما أن أهدافك، وقيمك، وتيسير الله وقدره فيك قد يجعلك تسلك منحنياً ما دون آخر، لكنها بالنهاية قصتك الخاصة، ستذكرها يوماً وتعلم أنك "على الأقل" في تلك الفترة الزمنية فكرت، استخرت، اخترت وقررت،
نعم، قد ترتكب أخطاء بقراراتك مع اليقين أولاً وأخيراً أنه قدرك الذي كتب لك منذ اللحظة الأولى، لكن الحرية باتخاذ تلك القرارات من نعم الله علينا، وحقيقة بكل ما تحمله من مسؤولية هي من أكثر الأشياء التي تجعلك تحس بنفسك ومعنى وجودك، فحتى الطفل الصغير أولى معاركه هي من أجل قراراته،
قد تجدني اختفيت خلال الفترة الماضية، والحقيقة أنني اتخذت قراراً تسبب بذلك، لكن قبل أن أوصلكم للقرار سأعود بالزمن قليلاً لأحكي لكم قصة هذا القرار،
أول قرار للسفر
مع بداية الثورة في سوريا 2011 والتي تزامن معها اقتراب الخدمة العسكرية الإلزامية، ومع صعوبة تمديد التأجيل الدراسي الجامعي لها، بدأت التفكير وقتها بالسفر إلى مصر، بل وكنت قد اقتربت بشكل كبير من حجز بطاقة الطائرة،
لكن وبالصدفة وأثناء حديث مع أحد العملاء والذي يميل ليكون صديقاً عن كونه عميلاً فقط، نصحني بتجربة السفر إلى تركيا بل وشجعني لنسافر سويتاً فلن أخسر بذلك شيء، ثم في حال لم تعجبني الأمور هناك يمكنني وقتها السفر لأي مكان آخر، وحقيقة اقتنعت بذلك، واعتزمت الأمر وتوكلت على الله للسفر تاركاً ورائي كل شيء تقريباً.
الإقامة في تركيا
بعد ذلك القرار أقمت في تركيا بحدود الأسبوع أو العشرة أيام، شعرت بعدها برغبة كبيرة باستعادة حياتي السابقة، وفعلاً سلكت طريق العودة باشتياق وفرح بعد أسبوع فقط من وجودي في تركيا، لكن مشيئة الله كانت بأن أتعرض خلال هذه العودة إلى العديد من المنغصات التي دفعتني للسفر مجدداً لكن هذه المرة بحماس أكبر، ثم ومع مرور بضعة أشهر بدأت أشعر بانتماء ومحبة لهذا البلد الجميل، ثم مازاد رغبتي بالبقاء، هو وصول بعض الأصدقاء، ثم الشعور الذي تركته إسطنبول في قلبي بعد زيارتها، ثم وصول أهلي في زيارة سريعة تحولت إلى إقامة أطول،
لننتقل بعدها فعلاً إلى إسطنبول، ويكرمني الله بعدها بالزواج هناك، وتكون فترة من أجمل فترات حياتي والتي توجت بولادة ليلى، وبالمختصر كان كل شيء حتى هذه اللحظة وردياً وجميلاً ولله الحمد.
ورقة روتينية بدائرة حكومية
في إحدى الأيام الماطرة، كنت بصدى تجديد إقامة زوجتي واستخراج إقامة لابنتي التي مضى على ولادتها فترة بسيطة، وفي تلك الدائرة الحكومية التي كان يجب أن يمر بها هذا الأمر بشكل روتيني، لاحظت الموظفة أن مكان وبلد ولادة زوجتي رومانيا، وبالتالي لم يعد يحق لها التواجد .. إلا كمواطنة رومانية وعليه ابنتي كذلك،
بل وسحبت منها الإقامة مع التوقيع على مغادرة البلاد، وعلى كمية الإحباط والصدمة التي انتابتنا وقتها "على قدر أن هذا الأمر كان خيراً بمجمله"، وعليه ومع كمية أوراق رسمية وتراجم وتواقيع وأختام أكبر من وصفها، وصلنا إلى وضع ابنتي التي بقيت فيه بورقة ولادة المشفى فقط ودون أي إثبات آخر، ومازلت أذكر كمية الهم والضياع وقلة الحيلة، ليتلاشى كل ذلك مع زيارة بسيطة للسفارة الرومانية حيث أخذت ابنتي خلال دقائق ورقة سفر لرومانيا بروح طيبة وبسلاسة لم أعهدها بحياتي.
سفر زوجتي وابنتي
بعد ذلك سافرت زوجتي وابنتي بضعة أشهر تم فيها ترتيب كل أوراقنا الرسمية، وعادتا مجدداً لتركيا، على أننا لم نخسر شيئ بل سنبدأ بداية جديدة، لكن للحق لم يعد أي شيء كما كان ..
حيث تزامن مع ذلك بدء تغير سياسة تركيا بشكل علني أو ضمني تجاه الأجانب، وعليه أصبح لدي متلازمة خوف وهلع حقيقي تجاه أي ورقة رسمية سنقوم بها مهما كانت بسيطة، "ونعم التعميم لغة الجهلة" لكن بأفضل وأكرم وأجمل الأحوال 80% من أي شيء كنا نقوم به كان مرهقاً، مستفزاً، يستنزف من عقلك وروحك الكثير، وبالعموم خلال هذه المدة وبعدها كنا متمسكين بحياتنا في تركيا لسببين،
الأول : هو انتظاري لملف الجنسية التركية الذي تقدمت به بعد سنوات اقامتي في تركيا والذي لم يوفقني الله فيه حتى الآن، والسبب الثاني : هو إسطنبول ومنزلنا وحياتنا وكل الذكريات التي بنيناها خلال السنوات الماضية، ويبقى السؤال الذي كنا نسأله لأنفسنا كل مرة هل هذه أسباب حقيقية تستدعي العيش بتلك الكمية من الضغط والتفكير والشعور بعدم الاستقرار اليومي ؟
قرار السفر من جديد
خلال الـ 10 سنوات الماضية في تركيا، عرض علي أكثر من عميل وأخ أو صديق ترتيب السفر للسعودية، وبالوقت نفسه كان يظهر أمامنا خيار السفر إلى رومانيا، لكن ومع كل فكرة ترتبط بالسفر كانت تتملكنا ذكرى ما بإحدى زوايا المنزل أو حارات إسطنبول "والتي أشعر أحياناً أنها بنيت وشكلها الزمن لتكون فخاً تقع فيه ولاتخرج منه"، فنستبعد معها السفر وما يخصه،
لكن ولنعود لبداية التدوينة وفكرة القرارات، كنا نشعر أن هناك قراراً ينتظرنا، فمن ناحية ليلى بدأت تكبر واقتربت من عمر الدراسة، ومن ناحية ثانية بدأت تلك الأوراق الرسمية والقرارات الحكومية الفجائية تؤثر بشكل أكبر من الطبيعي على حياتنا وتفكيرنا، بل و بدأت بتقييد أي تطور محتمل على أغلب الأصعدة الحياتية،
وعليه توكلنا على الله ببدء ترتيبات السفر إلى رومانيا تاركين بذلك كل شيء ورائنا تقريباً، وبعد سنوات جميلة مليئة بالذكريات ركبنا الطائرة مغادرين كل ذلك.
بوخارست ..
على قدر محبتي واعتناقي لمبدأ "البداية من جديد" والذي يوحيه إلي قلبي كل فترة، إلا أن البداية على هذا الصعيد كانت مرهقة، وصعبة، وحقيقة لم نتعاف منها لليوم، مع التسليم طبعاً أنها كانت تجربة ممتعة واستثنائية إلى حد أكبر من وصفه لكم،
عموماً مضى ما يقارب الست أشهر في بوخارست، وهي مدينة بصخب متواضع، روتين الحياة فيها هادئ ومتكرر، لم تحرك شعور الفضول والاهتمام لدي حتى الآن، وبالطبع أتأمل فيها خيراً كثيراً بإذن الله،
وعلى الطرف الآخر ما زلت أتذكر إسطنبول وأحبها بصدق، بحاراتها وقصصها، بمقاهيها، بازدحامها وتقلبها أو عدم تشابه الأيام فيها، لكنه ربما كان حباً من طرفٍ واحد، أو فصلاً من الفصول قد انتهى، مع بداية فصل جديد أولى صفحاته أنني بت أملك راحة ذهنية أكبر، ولدي الكثير لأفعله بعون الله،
وبالنهاية، أسأل الله لكم قرارات حماسية جميلة ممتعة، تسعدكم وتغير حياتكم أو ربما تبقيها بأفضل وأجمل شكل ممكن.