حقيقة العمل الحر: بين التجارب الشخصية الواقعية والكلام التسويقي

حقيقة العمل الحر: بين التجارب الشخصية الواقعية والكلام التسويقي

لا أدري إن كنت الوحيد الذي يشعر بأن مفاهيم العمل الحر وجمله بدأت تدخل مرحلة الابتذال. يبدو أن كل من يتحدث عن العمل الحر حاليًا (وربما أكون منهم) يقع في الفخ الكبير الذي يفترض أن العمل الحر هو هروب من القيود والمدراء، ودخول في ذاك الجو الوردي الجميل وتلك الحرية المطلقة. الجلوس خلف مكتبك المنزلي المليء بأوراق الملاحظات الملونة والكتب التحفيزية الشهيرة، وعلى يسارك فنجان قهوتك، وانتظار بدء جني الأرباح أو النجاحات بمجرد تطبيق تلك الخطوات الأربع التي قرأتها في مقالة ما هنا أو هناك.

ولا أدري لو كان محكومًا على أغلب المفاهيم والمعطيات التي يتم نشرها وتداولها بكثرة في وسطنا العربي بـ”الابتذال”، وأخذنا لذلك الجانب غير الحقيقي دائمًا في كل أمر. نقرأ ونكتب نفس الجمل المتكررة، نعيد تدويرها في مقالات عدة مرات لننتج مقالة ذهبية عن العمل الحر.

لكن، هل طرح كاتب هذه المقالات على نفسه بعض الأسئلة قبل كتابتها؟

 

هل العمل الحر يعني الحرية المطلقة حقًا؟

نعم، الحرية في جانب المكان فقط، لكن على المستوى الشخصي والداخلي، هل توجد حرية في مزاولة العمل الحر؟ بالتأكيد لا. القيود الداخلية التي تفرضها على نفسك أكبر بكثير من تلك القيود المرتبطة بالمكان أو الأشخاص.

 

وهل العمل الحر يعني عدم وجود جهة عليا عليك ومدراء؟

لا، في العمل الوظيفي مديرك واحد أو اثنان، أما في العمل الحر، فمديرك هو ضميرك، مهامك، عملاؤك، وكل من تتعامل معهم.

 

هل العمل الحر يجعلك تغرق في الذهب؟

العمل الحر يعني عدم النوم حتى تستطيع تأمين مستلزماتك وشعورك بالراحة أو الاستقرار. العمل الحر يعني متابعة عملائك ليلاً ونهارًا. العمل الحر يعني ذاك التوتر الذي يجعلك دائمًا تخشى أن يمر هذا الشهر دون أن يزورك عميل جديد.

 

وهل العمل الحر يعني إنشاء موقع وبدء الربح في اليوم التالي؟

ليس بالضرورة أن إنشاء معرض الأعمال أو التسجيل في أحدهم والعمل على مشاريع وهمية يعني بدء استلام المشاريع الحقيقية والكسب. بالطبع، المنطق من حيث الأخذ بالأسباب وتكامل الخطوات صحيح، لكنه لا يعتمد عليه ولا يبنى عليه أي قرار مصيري كترك عملك مثلاً.

 

وهل قصص النجاح في العمل الحر دليل على نجاحك؟

قصص النجاح محفزة وجميلة ولطيفة وتنتشر بسرعة، والجميع يقرأها. لكن هل هي مفيدة فعلاً؟ لا. ليس بالضرورة أن تطبيق إحدى تلك القصص يعني نجاحك، فما قد كان مناسبًا لذاك الناجح قد لا يناسبك. ناهيك عن فارق الزمان والمكان وأسلوب التطبيق.

 

وهل المنتجات الرائعة تعني بيعها دائمًا؟

لا، فكم من منتجات أكثر من رائعة لم تظهر ولم يعرف بها أحد. ليست النظرة السوداوية هي التي جعلتها تختفي، فالظروف ليست دائمًا مريحة وجميلة، والمستخدم ليس دائمًا مهتمًا بمنتجك أو موقعك أو عملك. وكلمات أصدقائك ومن حولك ليست دومًا صادقة وحقيقية.

 

وهل تلك الخطوات المنمقة تُعَرِّفُ العمل الحر على حقيقته؟

لا. الجمل التي تتغنى بالعمل الحر والاعتماد على النفس وكسب الأرباح بخطوات واضحة، وأن العمل الحر يعني العمل بشغف وابداع أكبر، هي جمل كتبها أمثالي بعد إنهاء تجربتين ناجحتين، ثم نسوا مراجعتها عندما واجهتهم عشرات التجارب الفاشلة.

 

وهل العمل الحر يحتاج فقط للشجاعة؟

لا. العمل الحر يحتاج لمئة شيء آخر غير الشجاعة. الشجاعة قد تعني الانتحار، والشجاعة تعتمد أحيانًا على المزاجية والظروف، ولا يبنى عليها فقط أي قرار في الحياة. “الشجاعة حملة إعلانية ابتكرها المترفون”.

 

للأسف، قد خدعوك وقالوا:

مستقل.. بعملك ورأيك ورغباتك وخياراتك، وكما فعلها غيرك.. تستطيع أنت أن تفعلها أيضًا.

 

سواء توجهت للعمل الحر أو للعمل الوظيفي، المقياس الأول والوحيد هو أنت، ليست كلماتهم وكلماتي وما ذكرته وأذكره في كل مقالاتي. المقياس الوحيد هو تجربتك ومهارتك وعدم قدرتك على النوم وأنت تحلم بإنجازاتك وما تريد تحقيقه. سواء كنت تعمل بشكل حر أو وظيفي، أنت هو نقطة الارتكاز. بوجود مدير عليك، أو بعدمه، سواء كنت تنتظر راتبك آخر الشهر أو ذاك المبلغ المترتب على عميلك الجديد.

 

اقرأ كل هذه التدوينات والتغريدات والكلمات الجميلة التي نكتبها في أوقات فراغك فقط، ثم أغلقها وعد لحياتك الواقعية ولا تبنِ عليها أي شيء. تدوينات الخطوات وقصص النجاح والأحلام الذهبية هي: إما موضة هذا العصر، أو أننا “نحن كتابها” نخدع أنفسنا لنتفاءل بها ونرى أن خياراتنا وكل شيء نقوم به جيد ورائع. لكن بالنسبة لك، لا تنخدع معنا وتذكر أن:

المضمون الأساسي والحقيقي للعمل الحر هو: أفكارك، تجاربك، حياتك.

Leave a comment

Please note, comments need to be approved before they are published.