في كافة المجالات، هناك تجارب يمكن وصفها بالانتحارية، وفي العمل الحر، التعامل مع جهة حكومية هو الانتحار بحد ذاته. فرغم بعض الميزات التي ترافق تلك التجربة، وعلى رأسها العائد المادي، تجد أن السلبيات تفوقها بكثير. حتى أكثر المصممين والمطورين خبرة يتجنبون التعامل مع الجهات الحكومية… لماذا؟ بعد قراءة الفقرات التالية، ستعرف السبب تماماً.
لكن قبل ذلك، هل هناك ميزات للتعامل مع الجهات الحكومية غير “تقوية الإيمان الداخلي والصبر وتدريب عقلك على الكوارث”؟
نعم، اسأل أي مستقل أو شخص تعامل مع جهة حكومية في عمل ما عن المبلغ الذي تقاضاه. سيقول لك إنه قام بضرب سعره الطبيعي بـ 3 إلى 5 مرات أو حتى 10، وما أن بدأ بالعمل مع إحدى الجهات، حتى شق طريقه إلى أغلب الشركات والجهات الحكومية وأصبح المصمم المعتمد لهم جميعاً. ربما لأنه أصبح مخضرماً في هذا المجال، أو لأنه ببساطة مناسب لهذا النوع من التعاملات “القائمة على أساس الغيرة والتنافس”. فكما قام مدير الشركة الفلانية بتغيير شعارها أو موقعها الإلكتروني بواسطة فلان الفلاني، يقوم هو كمدير لهذه الشركة بجلب نفس المصمم ودفع مبلغ أكبر مقابل تصميم شيء جديد “وأفضل”. تشعر بالنهاية أن الأمر عبارة عن سباق كئيب، مميت، لكن يصب في مصلحة من يستطيع تحمل هذه الفوضى. لذا، إذا أخذنا الجانب المادي كميزة، فأتوقع أنها الميزة الوحيدة فقط.
بعيداً عن الجوانب المشرقة في تعاملات كهذه، دعونا نخوض الآن لمحات سريعة عما قد يواجهك عند التعامل مع جهة حكومية:
السلم الإداري المخيف
بمجرد دخولك غابة المسميات الوظيفية الوعرة، ستبدأ مشاكلك الحقيقية. “المدير الإداري، السكرتير، المحاسب، المدير العام… ومعاونه، وأسماء لن تذكرها”، جميعهم متفقون على شيء واحد: “عدم الاتفاق على رأي”. فالشعار بالنسبة للبعض كبير أو صغير، يُطلب منهم تغيير اللون، ليجيب آخر بأن اللون مناسب، يقفز أحدهم ليقول إن هذا النمط رائع، فيرد آخر بأنه سيئ جداً، وهكذا إلى النهاية. ثم حتى لو ذهبت لرأس الهرم، غالباً لن يكون قراره نابعاً عن شخصه، بل له اعتبارات أخرى، مثل:
زوجة المدير
نعم، بكل بساطة. لو قمت بعرض العمل عليه دون المرور بالغابة السابقة، سيقوم هو تلقائياً باستشارة شخص ما آخر. وهذا الشخص لن يخطر على بالك حتى في القصص الخيالية، مثل حاجب مكتبه أو مسؤول القهوة والشاي، أو زوجته. نعم، وبما أن زوجته لا تعرف ما هو البريد الإلكتروني، يرسل عملك لها بواسطة “الفاكس” أو مع سائق المؤسسة، أو يصوره بجواله ويرسله كرسالة عبر إحدى برامج المحادثة، مطالباً إياها برأيها ومبرراً لك هذه المهزلة بـ “أنه رأي ثالث بعيد عن المهنة” أو أن زوجته لها اطلاع واسع على الأعمال الفنية ومعارض النحت والأمسيات الشعرية.
بمجرد أن تشعر ببدء هذه المرحلة… أغمض عينك واستسلم لأنواع التهريج والتفاهة بأشكالها.
التنافس الإداري
“أريد حجم شعار المؤسسة أكبر من حجوم شعارات المؤسسات الأخرى، وأحتاج لعدد أكبر من الألوان – أو هل يمكننا زيادة عدد الأحرف والكلمات فيه؟ ماذا لو وضعت حرفين داخل الشعار معبراً بذلك عن اسمي واسم ابني؟” إذا ظننت أن هذه الأسئلة خيالية، فأنت لا تعرف شيئاً عن الجهات الحكومية. يكفي لمدير في إحدى الشركات الكبيرة أن يغير شعار شركته أو مؤسسته، ليقوم كل مدراء الشركات الأخرى بتغيير شعارات شركاتهم أيضاً.
ليصبح الأمر فجأة مجرد مبارزة وسباق، ناهيك عن كميات النميمة والكذب والاستهزاء الكبيرة بينهم. والجميع يظن أنه الأفضل بما يقوم به.
“المدير يستمع لي”
دائماً ما يكون مدير المكتب أو معاون المدير ذو شخصية مطابقة لتلك المستخدمة في الحكايات والمسلسلات الكوميدية. فهو دائماً ذلك الشخص الذي يريد إخبارك بأنه العقل الحقيقي للشركة، وأن المدير لا يقوم بأي شيء دون استشارته وطلب نصيحته. وعملك لن يُعتمد ويُستعمل إلا إذا وافق هو عليه. ثم يلمح لك بوجوب التقرب منه لأنه صاحب الكلمة الأولى والأخيرة، وأنت تصبح بشكل تلقائي كرة يلعبها المدير ومعاونه وموظف آخر حاقد على الاثنين.
المدير الكلاسيكي
“أنا من الأشخاص الكلاسيكيين في الاختيار، ليس لي في الموضة والتقنية وهذه الصيحات الجديدة. أحتاج شيئاً غير عصري، قديماً ويذكرني بشبابي، تحديداً في فترة التسعينات”. ثم يتبع كلامه بـ “أيام رائعة لن تتكرر”. ثم يسألك: “تحب أعطيك ألبوم صوري وأنا شاب تستلهم منه فكرة العمل؟”
المؤتمرات والمؤامرات
عند تقديمك النماذج الأولى، سيتم التحضير لاجتماع تخرج نتائجه بعد أسبوع. وبعد أن تقدم تعديلاتك الأولى ستحتاج الإدارة إلى اجتماع مستعجل تنهيه بعد يومين من الأخذ والرد، يليه اجتماع لحسم الأمر والخروج بنموذج واحد مع تعديلاته الأخيرة. ثم يمرض المدير فجأة أو تأتي فترة نقاهته السنوية في باريس، ثم تتوقف القصة إلى حين عودته بعد 21 يوماً حاملاً معه نماذج أوروبية يعقد عليها اجتماعاً مع مجلس الإدارة متآمراً على أحد الموظفين الذي أبدى إعجابه بأحد النماذج التي لم تعجبه هو. يخبرك بضرورة عدم إخبار ذلك الموظف عن الاجتماع السري الذي قمتم به، والموعد الجديد لبدء العمل من الصفر، والخروج بنتيجة جديدة كلياً.
التحول المفاجئ
في عشية وضحاها، تتحول من شخص طبيعي يذهب في مواعيد منتظمة للقاء المدير وأفراد الشركة والحديث عن العمل وتعديلاتهم، إلى موظف بدوام كامل. تتحول معها مسؤولياتك تدريجياً إلى: إصلاح شبكات الشركة، واستعادة كلمة مرور حاسب المدير، أو تنصيب نسخة حديثة من نظام التشغيل، واستعادة بعض البيانات المفقودة، وتغيير خلفية سطح مكتبه، ثم طباعة بعض الأوراق وأرشفتها، أو تحضير فنجان قهوة سريع ريثما يعيد النظر في عملك.
الصيغ المصدرية
إذا انتهى عملك وأنت بكامل قواك العقلية، أي بعد مرورك بكل ما سبق، كم سيكون من الرائع أن تحضر ملفات عملك وترسلها للمدير أو تعطيها لمسؤول الـ IT عندهم، الذي أصبح صديقك المخلص. ثم ما أجملها من لحظة عندما يطلب منك العمل بصيغة Word؟ ويصر عليها كونها “الصيغة الرسمية المعتمدة في شركتهم”. وصحيح أن المسؤول التقني صديقك، لكنه ليس من النوع الذي تستطيع أن تخدعه وتعطيه العمل بصيغك الوهمية الغريبة المخادعة مثل AI, EPS أو PSD. وكم سيعجب بك المدير ومن حوله لو أعطيتهم العمل بصيغة PowerPoint أيضاً!
الفاتورة وأمر الصرف
أتوقع أن هذا ما جعلك تصبر على كل ما سبق، فهو الغاية أو الميزة الوحيدة أليس كذلك؟ حسناً، حتى في هذه النقطة عليك أن تجهز عقلك ليحتمل المماطلات والاعتبارات الوظيفية وسلالمها. ستواجه أشياء مثل: “لم يصدر أمر الصرف بعد، الفاتورة تحتاج تدقيق من المدير ثم اللجنة المالية، تمت الموافقة على الفاتورة لكن سيتم تقسيمها إلى دفعتين، لن يصدر أمر الصرف إلا بعد شهرين من الآن، نحتاج إلى فاتورة مصدقة مع ختم من شركتك المسجلة رسمياً” رغم أنهم يعرفون منذ اللحظة الأولى أنك شخص مستقل ولا تملك شركة. “كل شيء جيد لكن هناك خطأ في اسمك سنحتاج إلى إعادة إصدار الفاتورة، لم تأتِ الموافقة على الفاتورة فالحكومة تمر بحالة من التقشف الآن.”
في النهاية
لن أختتم ما كتبت كما أفعل دائماً وأسحب التعميم، ثم أحوله لبعض الحالات الخاصة، لأن ما تحدثت عنه بالأعلى يشمل أكثر من 95 بالمئة من حالات التعامل مع الجهات الحكومية العربية. ولو لم تصدق… اسمع تجارب أشخاص خرجوا من هذه التعاملات وهم في كامل قواهم العقلية، وأخبرني لو كنت مخطئاً عندها.