عندما تكون مستقلًا أو صاحب مشروع أو عمل تجاري، فهذا يعني الحرية المطلقة في وقتك وقراراتك ويومك وكل ما تقوم به. هذه الحرية أساسية لصناع المحتوى والمبدعين، لكنها تأتي مع مسؤولية كبيرة، وهي مفهوم الاستمرارية أو الثبات (Consistency). في بعض الأحيان، يبدو هذا المفهوم معاكسا لمفهوم الحرية الذي دفعك في البداية للتوجه إلى العمل الحر أو الاستقلالية وتأسيس عملك الخاص.
مفهوم الاستمرارية
الاستمرارية (Consistency) كمفهوم تعني الالتزام والثبات والاستمرار في جزئية أو تصرف معين بشكل دوري ومستمر. فمثلاً، إذا كنت مصورًا فوتوغرافيًا، فهذا يعني الاستمرار في نشر صورك على موقعك أو شبكاتك الاجتماعية بشكل منتظم وبوتيرة ثابتة. عدم الانقطاع والاختفاء عن المهتمين بما تقوم به، سواء كانوا عملاءك أو رواد عملك التجاري، هو جزء لا يتجزأ من نجاحك.
لنتخيل أنك صاحب مقهى تديره بنفسك. تفتح أبوابه وتبدأ نشاطك فيه الساعة 07:00 صباحًا يوميًا. إذا قررت فجأة تغيير الوقت إلى الساعة 10:00 صباحًا لمدة يومين، ثم عدت للموعد السابق، ثم قررت إغلاقه بشكل كامل ليومين، ثم عدت للالتزام، ثم توقفت مرة أخرى؛ ماذا سيحدث؟ ستفقد مع الوقت اعتماد الناس عليك وعلى مقهاك، مما يؤدي إلى انخفاض مبيعاتك وزيادة خسائرك تدريجيًا. ومع مرور الوقت، قد تخسر عملك بشكل كامل.
الفوائد التي أجدها في الاستمرارية
تجلب الاستمرارية الالتزام، والالتزام “العقلاني” يجلب الإبداع:
ما أقصده بالالتزام العقلاني هو الالتزام المبني على هدف حقيقي وسامٍ تعمل لأجله، وليس لمجرد الحضور أو فعل شيء ما بدون معنى أو هدف للحصول على مقابل مادي. هذا يعني أنك تتقاضى فعليًا مقابلًا عن حضورك وليس عن عملك، كما هو الحال في أغلب الوظائف التقليدية.
تفرض عليك الاستمرارية التطور بمستواك بشكل لا إرادي:
وهي إحدى بديهيات الممارسة المستمرة؛ إذ إنها مرتبطة بالحرية. هذا يعني أن عملك وما تقوم به لهدف واضح لديك أو لتحقيق ذاتك من خلال ممارسة هواية أو شيء تحبه. في كلتا الحالتين، ستصبح أفضل مع مرور الوقت، وليس العكس.
ترتب الاستمرارية أولوياتك مع الوقت:
من السهولة المطلقة أن تخوض في العديد من المجالات والمشاريع وتختلط عليك الأفكار والطرق. ولكن مع مرور الوقت، ستفرض عليك الاستمرارية حتمًا أولويات معينة. فلو كنت مصممًا، فسيكون من أولوياتك نشر أعمالك وأفكارك أكثر من أي شيء آخر. قد ترفض من أجل ذلك فرصًا مهنية كاملة للحفاظ على هذا الهدف، مما يدل على أنك تعمل لهدف واضح وأكبر، وهي الغاية الحقيقية للاستمرارية.
تحديات الاستمرارية
تختلف الاستمرارية عن العمل الوظيفي وساعات الدوام:
حيث ينساق صناع المحتوى – والمقصود هنا المصممين، والمصورين، والكتاب، والمطورين وكل من يصنع ويقدم شيئًا – بشكل لا إرادي إلى النفور من الاستمرارية لأنها تشبه الالتزام. الفارق الأساسي يكمن في الأهداف والنتائج التي تعود عليك من هذا الاستمرار، وهل أنت مجبر عليه أم لا.
الاستمرارية المهدد الأول لمسيرة أي شخص:
فهي التحدي الأكبر لجميع صناع المحتوى والمشاريع. كم من مشروعٍ أو فكرةٍ أسسها من حولك وتعرفه، ولكنه مع الوقت تخلى عنها وتوقف إلى أن مات هو وأفكاره. السبب الذي يجعل الاستمرارية المهدد الأول هو أنها غالبًا لا تكون ظاهرة وواضحة. التخلي عنها أو نسيانها يحدث بالتدريج وليس بشكل مفاجئ وواضح.
عدم الاستمرارية ستفقدك المهتمين:
بالعودة لمفهوم المقهى، فإن عدم استمراريتك قد لا تعني بالضرورة غياب رواد المقهى بشكل كامل. هناك دائمًا من يزور الشارع للمرة الأولى ويمر بالمقهى الخاص بك؛ لكنك ستخسر حتمًا الرواد الدائمين والمهتمين به، وهم بطبيعة الحال الغاية الحقيقية والهدف الأساس من عملك. هنا تكمن المشكلة الكبرى؛ فقدانهم يعني الموت البطيء لعملك ومهنتك.
تفرض الاستمرارية عليك التعامل مع الظروف اللاإرادية:
الظروف اللاإرادية والاستثنائية، رغم صعوبتها، والمتمثلة بالسفر أو المرض أو غيرها، متعبة ومملة. لكنها مرتبطة بالزمن وليس بالشخص نفسه وإرادته. هذا يعني أنها وإن استمرت يومًا أو يومين أو أسبوعًا أو حتى شهرًا، فحتمًا ستنتهي وتختفي. حتى تلك الظروف الاستثنائية الدائمة ستجبرك على تحملها أو الالتفاف حولها والتعامل معها بسلاسة. قد تزيد الشخص في أغلب الأحيان – وهي ميزة فيها – إصرارًا وصبرًا حتى انقضائها أو الاعتياد عليها واستئناف الاستمرارية والإنجاز.
قد تعني الاستمرارية في بعض الأحيان التطور البطيء:
بعيدًا عن المثالية المفرطة، ليس بالضرورة أن تعني الاستمرارية التغيير الكبير والنقلات النوعية في مجالك وعملك أو مشروعك. إذا لم تحالفك الإمكانيات والقدرة، فأن تبقي نفسك أو مشروعك يعمل باتزان قدر الإمكان أو بزيادة أو تطور بسيط ومستمر، فأنت تحقق بذلك هدف الاستمرارية. لكن على أن يكون لديك هدف أكبر، وهو التطوير والانتقال لمرحلة أكثر تقدمًا.
بالختام، الاستمرارية فخ أيضًا:
الاستمرارية ليست دائمًا الحل. في بعض الأحيان، قد تكون فخًا، وقد يكون الانسحاب أو التوقف حلًا أجدى وذا فائدة أكبر. فأن تستمر بما تقوم به حتى يقال عنك “غير متنازل” أو “لمجرد العناد”، فهذا يعني أنك تتراجع وتقتل وقتك وجهدك. لكيلا تقع في فخ الاستمرارية، راقب مستواك ومستوى عملك وما تقوم به. إذا بقي هدف الاستمرارية موجودًا والنتائج موجودة وتزداد وتتطور مع الوقت، فلا تنسحب. أما إذا اختفى الهدف والنتيجة، فتوقف عما تقوم به وابدأ من جديد.